جلسة في دكان الإسكافي عمي مسعود !

رجل ذو بصيرة، أصيب بإعاقة جسدية في رجليه  ولكنه لم يستسلم لتلك الاعاقة أبدا، وراح  يتحدى الواقع الذي فرض عليه في القرية التي كان يقطنها وينافس الأصحاء بفرض نفسه كشخصية لا غبار عليها،  وتزوج وأنجب رجالا منهم الصحفي ومنهم حافظ للقرآن... وهو من كان يعيل العائلة إلى غاية مرضه ووفاته.

 رجل ينحني له الصبر،  ويحتضنه الحنين،  ويأتيه الوفاء حبوا، ويُحييه ضباط القرية...ويأتيه الرياضيون وهم مذعنون لسلطته.
 ذاك هو عمي مسعود الذي كان يرحب بنا في دكانه، الذي تعدت قيمته المعنوية كبرى الشركات العالمية... ويصنع لنا مما حباه الله من إرادة فولاذية، أحذية رياضية كنا  نتباهى بها أمام القرى الأخرى  في فترة السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات. إرادة يلين لها الحديد.
أحاول أن أصف دكانه الذي كنت أحفظه عن ظهر قلب،  لأرسم في مخيلات من لم يعيشوا جيلنا كيف كنا نحيا بوسائل البساطة والتواضع دون تصنع ولا تكلف،  وكيف كانت القناعة  تملأ البيوت  قبل أن يحل الجشع ... وينفلت العقد.
وأحاول أن أدغدغ  عقول من عاشوا تلك السنوات...علهم يستعيدوا من الذاكرة الايجابية بعض الذكريات...يشحنون بها  طاقاتهم التي أكلتها الحداثة المصطنعة.


ها هو عمي مسعود ينزل من دابته بمساعدة في الغالب من زوجته أو أحد أبنائه... يفتح باب الدكان الخشبي...وهو يسحب رجلاه المثقلتين...ثم يلقي ظهره للحائط...
يبدأ فرز السلعة التي غالبا ما يقتنيها من ولاية برج بوعرريج التي تبعد القرية ب 30 كلم.

يُشعل المذياع الذي يتمشى بالبطارية...ويلتفت الى الجبل المقابل... وأغنية فريد الأطرش :عش أنت ... وها أنذا أطل دون موعد  فألقي عليه السلام...فيرد مبتسما، أهلا بابن الشيخ ...ويطلب مني أن أجلس فوق كرسي صغير مصنوع من الخشب، مقابله...ويطلب مني أن أعطيه رجلا خشبية موضوعة فوق آلة الخياطة.

الدكان لايوجد به الكهرباء  بل فيه مصباح  وسقفه يتوسطه قنطاس  ...عندما يتمشى طفل في الغرفة العليا تشعر أن السقف يكاد ينزل...ومع ذلك عمي مسعود يضع أمامه فنجان قهوة ويعزمني.

بعد لحظات يلتحق السعيد  بلحملاوي بعد أن يفترق مع  الشيخ السوفي...وقد عاد من  فرنسا البارحة بعد المغرب... يحمل  بين أصابعه سيجارة من نوع غولواز...ويحرك أسنانه الاصطناعية.

يرحب به عمي مسعود بتقبيلتين ويسأله عن حال المهاجرين ويبلغه عمي السعيد سلام الجماعة.
وبعد هنيهة يشيع الخبر في القرية بفتح دكان عمي مسعود،  فيبدأ الزبائن  صغارا وكبارا  يتهاطلون ...كل يحمل ما ينوي اصلاحه...وللحظات يتفق معك  عمي مسعود لتضع بعدها ما تنوي عمله وتعود في الموعد الذي حدده لك دون أن يعطيك وثيقة فالموعد عنده عهد.

ويتواصل الحديث في ذلك الدكان حول مايجري في العراق والعالم العربي .
هنا تدخل بنت صغيرة تضع على رأسها محرمة وتناديه: عمي مسعود: قالت لك لالا خديجة خدمت لي الصباط والا مازال؟ راني رايحة لعرس بيت الطاهر بن كذا...فيجيبها عمي مسعود :  حاضر ، قولي لجدتك مبلغ الاصلاح 10 دج. تعود  الحفيدة مسرعة وتأتي له بالمبلغ ثم تعود فرحة وهي تحمل الحذاء الذي تم اصلاحه.

راعي القرية المدعو القنديل فوق رأس الجبل وبمزماره القصبي يصنع ألحانا تتناغم مع طبيعة المنطقة...هو عائد للقرية بعدما قضى يوما في المرعى...بجبل مزيتة....وعلى ظهره جدي يمأمئ في عمارة.
وهاهو الشيخ مقران  يحمل على بغله ودابته صهاريج متوسطة من زيت الزيتون وأكياس من التين المجفف وينادي: ياكيال الزيت...ياكيال الزيت،  يشتري منه أهل القرية الزيت والتين مقابل إمداده بالقمح أو السميد.
هنا يؤذن العصر الحاج عمر...الله أكبر الله أكبر، لاإله الاّ الله.

غدا هو اليوم الذي يأتي فيه أولاد عبد الواحد...والتحضيرات جارية لاستقبالهم.
ينته عمي مسعود من اصلاح الحذاء فأدفع له مبلغ اصلاحه ويجلس مكاني عمي السعيد...
عمي السعيد: هيه يا  الجي 3 واش راهو الحاج؟ بخير الله يسترك عمي السعيد...

يوصيني عمي مسعود أن لا أغيب عن حضور عرس المبروك لاسيما وأن صديقي عبد الحليم سيحضر الحفل مع فرقة من المسيلة.
هنا أنصرف لأترك المجال  للقادمين.

نورالدين خبابه 28 مارس 2020
رسالة أحدث
Previous
This is the last post.

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

صور المظاهر بواسطة PLAINVIEW. يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget