حصن جديد بقرية الدشرة:


تحتفي مدينة برج بوعريريج هذه الأيام بالشاعر الشهيد عبد الكريم العقون (1918-1959م) أحد أبرز أدباء وشعراء جمعية العلماء المسلمين من بلدة برج الغدير ببرج بوعريريج.

وبهذه المناسبة وجدت مقال قيم نشره عبد الكريم العقون رحمه الله بتاريخ 17 ديسمبر 1954م ضمن العدد 297 بجريدة البصائر يؤرخ ويوثق فيه لتدشين مدرسة التهذيب بدشرة أولاد لعياضي ببرج الغدير، ويتضمن المقال معلومات مهمة حول هذه المدرسة التي ساهم فيها كل أعيان وساكنة أولاد لعياضي وحتى المغتربين بفرنسا، وكان المشرف على العملية كل من محمد بالي خبابة وعلي مروش (أحد أفراد عائلة المؤرخ القدير لمنور مروش).

وقد تم تدشين المدرسة من طرف وفد جمعية العلماء المسلمين يتضمن: نويوات موسى الأحمدي، الشيخ أحمد حسين، عبد اللطيف سلطاني، محمد بن السعيد طرش، عبد الكريم العقون.

كما يعد المقال قطعة أدبية راقية جدا حول أهمية العلم والمدرسة، يمكن أن يكون نصا أدبيا لتلاميذ مؤسساتنا التربوية يقول فيه:

(في الدشرة المباركة العامرة الحالمة بين أحضان جبال القلعة ودمروش وكاف الطلبة الذي كان في الماضي يردد تراتيل المقرئين للقرآن، فتنبعث منه أصداء متموجة علوية، تهيمن على النفوس، وتنحني لها الرءوس، وتشفى بها الصدور، فتسري في الجسم قشعريرة خوف من الوعيد، ومسرح من النفحات المغرية المنعشة.

هناك على مقربة من برج الغدير الزاهي بحدائقه الغناء، والتياه بجداوله المترقرقة المتدافعة ببطء على جذوع الصفصاف المياد، والتي يسمع خريرها من بعيد فتطرب له الأسماع، وترقص له القلوب، ويهدهدها أغاريد الطيور، هنا وهناك كجوقة منعشة سحرية، تأسو الجراح، وتبعث الأفراح، وتحيي الآمال والأحلام.

في هذا الجو الحالم هب أبناء هذه الدشرة العامرة، على صيحات رجال جمعية العلماء وكان أول هتاف أيقظها من سباتها العميق هو هتاف أستاذنا الجليل الشيخ البشير الإبراهيمي ذكره الله بخير، الذي هو من تلك الجبال، والذي حدا برجال الدشرة وأبدى لهم فكرة تأسيس مدرسة بقريتهم العتيدة، تضم شتات أطفالهم، وتغذي عقول ناشئتهم، وتزيح عنهم ظلام الجهل الحالك المخيف.

ورحم الله الزهاوي حيث يقول: 

ألا إن ليل الجهل أسود دامس ........ وأن نهار العلم أبيض شامس

تشق حياة ما لها من مدرب ........ وتشقى بلاد ليس فيها مدارس

وللعلم أيام هي السعد كله ........ وأما ليالي الجهل فهي مناحس

ونحن بعصر لم يكن فيه مفلحا ........ بأعماله إلا الذي هو دارس

إذا ما أقام لعلم راية أمة ........ فليس لها حتى القيامة ناكس

وكان الذي عززه، وأحيا معالمه وآثاره - الأستاذ عبد اللطيف سلطاني الذي انتدبته الجمعية لتلك النواحي - بدروسه العامرة، ونصائحه الغالية، وتفانيه في مهمته، ثم أبرزها للوجود نامية مباركا فيها الأستاذ الحاج أحمد حسين مندوب الجمعية أيضا، والأستاذ موسى الأحمدي، وكاتب هذه الكلمات المتواضعة، بعدة دروس ألقيت بمساجدها العامرة، التي كانت بمثابة الغيث النافع ساقه الله إلى ميت فأحياه، وبعث كلأه وأزهاره، فكانوا جميعا على حد قول الشاعر العربي:

تحيا بكم كل أرض تنزلون بها ........ كأنكم في بقاع الأرض أمطار

فتألفت على هذه الصيحات المتوالية المدوية جمعية للبناء والتشييد كان المشرف علي سيرها، والأخذ بيدها، ورفعها من كبوتها كل من الأخوين المخلصين: الأستاذ محمد بن بالي، والشاب الأستاذ علي مروش، فتسابق المحسنون إلى البذل والتشييد، وفي طليعتهم أبناؤها الأوفياء النازحون إلى فرنسا فقد قطعوا على أنفسهم أن يقدموا إعانة المدرسة على إعانة أهليهم وذويهم، وقد تم والحمد لله ما عقدوا عليه النية وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكأني بهم قد استجابوا لنداء ربهم في قوله: (يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، وتلوا قوله تعالى: (لن تناولوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم)، ورددوا قول الرصافي رحمه الله:

وأساس عمران البلاد تعاون ........ متواصل الأسباب من سكانها

وتعاون الأقوام ليس بحاصل ........ إلا بنشر العلم في أوطانها

لأنهم أدركوا أن لا حياة إلا بالعلم والعلم لا يؤخذ إلا من المدرسة، ولن يكون عالما إلا من كان متعلما، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله معلما.

ولهذا نجد أول خطاب وجهه الله لنبيه هو الأمر بالقراءة في قوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم).

موجها إلى أهمية العلم ليكون دعامة النهضة البشرية، وإننا نجد في القرآن الكريم بضع مآت من الآيات تتحدث عن العلم، وحثت عليه، والإسلام يقدر العلم ويرفع من شأنه، وهذا رسوله يقول: (من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم)، والأحاديث في هذا الموضع كثيرة.

وهذا فتح الموصلي رحمه الله يقول: (أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت قالوا بلى قال كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة، والعلم ثلاثة أيام يموت)، ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته، كما أن غذاء الجسد الطعام، ومن فقد العلم فقلبه مريض، وموته لازم، ولكنه لا يشعر، وقال الرئيس ابن سينا:

إنما النفس كالزجاجة والعلـــ ........ م سراج وحكمة الله زيت

وقال عبد الملك بن مروان حاثا بنيه على العلم: (يا بَنِيَّ! تعلموا العلم؛ فإن كنتم سَادةً فُقْتُم، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم، وإن كنتم سُوقة عِشْتُم)، وقد سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي أيهما أفضل، العلم أو المال؟ فأجاب العلم فقيل له فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك، والملوك لا يزدحمون على أبواب العلماء؟ فقال: ذلك لمعرفة العلماء بحق الملوك، وجهل الملوك بحق العلماء.

وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم خير من المال، فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.

هذا وإن المعرفة هي أحسن الأشياء التي تتألف منها سعادتنا، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تقتدي بأعمال الرسول وأصحاب الرسول، وأن تتجند أفرادا وجماعات للدعوة إلى العلم، والاكتراع من مناهله العذبة المتدفقة الصافية.

عز الشعوب بعلم تستقل به ........ ما عز شعب عليه العلم قد هانا

ولقد تخرج من المدرسة المحمدية الأولى الآلاف المؤلفة من المسلمين كانوا نماذج حية في تاريخ الإسلام، وكم خلف هؤلاء من آثار علمية جليلة وفي هذا المعنى يقول محمود غنيم:

استرشد الغرب بالماضي فأرشده ........ ونحن كان لنا ماض نسيناه

لهذا كله نهض أحباء العلم، وأنصار الفضيلة فشيدوا معقلا للغة الضاد، وأبناء الضاد، وقد تم والحمد لله بفضل المجهودات الجبارة التي بذلت في سبيله، وأضحى يلوح كعروس ترفل في أبرادها القشيبة، وعليها روعة الجلوة ومهابة الطلعة، كما يبدوا ذلك في الصورة ورحم الله الرصافي حيث يقول:

وأسسوها على الأعمال قائمة ........ ممهدين إلى المحيا بها سبلا 

يلقى بها النشء للأعمال مختبرا ........ وللطباع من الأردان مغتسلا

وقال بعض الحكماء: (من فتح مدرسة فكأنما أغلق سجنا)

بارك الله في مساعي الرجال العاملين المخلصين وكلل الله أعمالهم بالنجاح، آمين).

* صورة مدرسة التهذيب بأولاد لعياضي نشرتها جريدة البصائر سنة 1954.

الكاتب: صالح بن سالم


إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

صور المظاهر بواسطة PLAINVIEW. يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget