الدكتور المنوَّر مروش راهب في محراب البحث التاريخي


توفي المؤرخ الجزائري الدكتور المنوَّر مروش يوم 14 أوت 2024 بمدينة باريس عن عمر ناهز 92 عاما حافلة بالعطاء العلمي بعيدا عن الأضواء، مفضّلا صيد الأرشيف والوثائق، والتنقيب عن المخطوطات وسجلات المحاكم الشرعية، وقراءة المصادر وكتابة المقالات وتأليف الكتب في هدوء تام.

* مــــســـــار في ســـطــــور:

ولد المنور مروش في 21 ماي 1932م ببرج الغدير في ولاية برج بوعريريج. درس في مدرسة التهذيب التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم واصل دراسته الثانوية في المدرسة الخلدونية وجامع الزيتونة بتونس بين 1947 و1951، ثم انتقل إلى مصر ليدرس أولا في القسم النهائي بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، وانتقل بعد الباكالوريا إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة حيث نال شهادة الليسانس في التاريخ في عام 1957. وكان معجبا بأستاذه المصري الدكتور محمد أنيس، صاحب الكتابات المعروفة في التاريخ العربي المعاصر.

كان مروش عضوا نشيطا في رابطة الطلبة الجزائريين بالقاهرة وتعرف على قادة الثورة التحريرية الموجودين بمصر. انتقل إلى تونس بتكليف من جبهة التحرير الوطني فانضم إلى هيئة تحرير جريدة "المجاهد" من 1958 إلى 1962.

وبعد استعادة الاستقلال، عمل مديرا لجريدة "المجاهد" الصادرة باللغة العربية بين 1962 و1965. وقد أسهم مع ثلة من الصحافيين في تعريب ميثاق الجزائر وهي مجموعة من النصوص المصادق عليها من طرف المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد بين 16 و21 أفريل 1964، ونشره في جريدة "المجاهد" وأصبح هو النص الرسمي المعتمد من طرف الحزب ومؤسسات الدولة. واستمر في عمله بجد وإخلاص إلى غاية 1965 حيث تخلى عن العمل الاداري الرسمي تنديدا بالإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة من طرف وزير دفاعه العقيد هواري بومدين.

** فــي رحــــــاب الـــــجــــــامـــعــــة:

تفرغ مروش للدراسة في فرنسا وأعدّ أطروحة الدكتوراه في جامعة باريس 4 حول موضوع: "تطوّر إيديولوجية البعث من تأسيسها إلى وصولها إلى الحكم في سوريا 1940-1963" تحت إشراف الأستاذ بيير فيلار، وناقشها بامتياز في سنة 1976.

التحق مروش بجامعة الجزائر في عام 1975 ليدرّس تاريخ المشرق العربي وبقي في هذا المنصب إلى أن أحيل على المعاش في سنة 1991. كما تعاون في نفس الفترة مع المعهد العربي للثقافة العمالية وبحوث العمل بالجزائر.

استقر في فرنسا منذ بدايات التسعينيات وتفرغ للبحث والكتابة والنشاط الفكري صحبة مجموعة من الباحثين الجزائريين والفرنسيين أمثال: محمد حربي، عيسى قادري، جلبير منيي، بنيامين ستورا...الخ. ورغم غربته الطويلة بقي على اتصال بالنخبة الجزائرية، ويشارك في بعض النشاطات الثقافية والفكرية التي ينظمها أصدقاؤه في الجزائر.

لقد عرفت الأستاذ المنوّر مروش في معهد التاريخ بجامعة الجزائر بين 1987 و1990 عندما كنت أدرس في مرحلة الليسانس. كان أستاذا محترما جدا وكفؤا في المواد التي كان يدرِّسها للطلبة. كان ظهوره قليلا في المعهد، يقدم درسه ثم يغادره إلى بيته، ولم أره يوما لبس ربطة العنق أو حمل حقيبة، وإنما كان يكتفي دائما بمحفظة جلدية صغيرة، وكنت أستمتع بالنظر إلى رأسه العامر الذي يشبه في شكله رأس الفيلسوف الألماني شوبنهاور أو هكذا كان يخيّل إليّ آنذاك.

التقيت به بعد عام 1990 مرتين في جامعة السوربون ثم انقطع التواصل بيننا ولكن كنت أتابع أخباره وأقرأ مقالاته وأبحاثه. وكان آخر ما قرأت له مقالة كتبها في عام 2017 وصدرت ضمن الكتاب الجماعي المهدى للأستاذ محمد حربي. وقد أرسل إليّ الدكتور مروش منذ سنوات قليلة طالب دكتوراه لأساعده في بحثه وأبلغني عن طريقه تحياته الصادقة.

*** قــــضـــايـــا تــاريــخــيــة وفــكــريــة مـعــاصـرة:

وفي مجال البحث العلمي، نشر الأستاذ مروش مجموعة من البحوث القيّمة، استهلها بالدراسات الاجتماعية خاصة في الفترة التي عمل فيها خبيرا متعاونا في منظمة العمل العربية، ثم كتب في الموضوعات الثقافية والفكرية.

لقد نشر الأستاذ مروش عددا من البحوث في مجلة "دراسات" التابعة للمعهد العربي للثقافة العمالية وبحوث العمل بالجزائر، حيث خصها بمقالات حول الحركة العمالية في الجزائر وفي العالم العربي، ومقالا قيّما حول "نشأة فكرة الوطن في الجزائر"، اكتفي هنا بنقل فقرة من هذا النص، وهي تلخص رأيه الحاسم في هذا الموضوع الذي أثار حوله الجدل واللغو في الماضي البعيد والقريب: «لقد أراقت المشكلة الوطنية كثيرا من الحبر في مختلف مراحل كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار، وكانت مثار جدل عنيف، وهي بالأخص قد سال من أجلها دم كثير قبل أن يطلق التاريخ حكمه النهائي بانتصار الشعب الجزائري في كفاحه الوطني وبهزيمة من كانوا ينكرون عليه وجوده الوطني، ليس فقط بالكلمات ولكن بقوة السلاح». ومن الواضح أنه أراد أن يغلق تماما هذا الباب الذي مازال لحد الآن يطرقه من له النوايا الخفية والأطماع الأمبريالية، ويثبت أن الجزائر كانت دولة في الماضي وفي الحاضر، وستبقى كذلك إلى الأبد: «لقد حسم الموضوع إذن في الميدان، ولم يعد أحد ينكر على الشعب الجزائري شخصيته الوطنية التي فرضها بالكفاح والتي تعبر عنها اليوم دولة مستقلة نشطة تقوم في المجال الدولي بدور لا ينكر ولا يستهان به».

وأصدر بحثا حول موضوع مفاهيم القومية في مجلة "الثقافة والثورة" التي كانت تصدرها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. فبعد عرض وتحليل مجموعة من المقولات والنظريات حول القومية مركزا بشكل أساس على السياسيين والمفكرين الماركسيين، وتتبع تطوّرها التاريخي في أوروبا في القرن التاسع عشر، وفي العالم الثالث في النصف الأول من القرن العشري،. ودون استنقاص لأهمية هذه النظريات في فهم الماضي، يرى الدكتور مروش أن حاضر العالم العربي ومستقبله تتحكم فيهما عوامل واقعية أخرى حددها كما يلي: «إن الدراسة الاجتماعية العلمية للواقع العربي المعاصر لن تكون خصبة وفعالة بمثل هذه الصيغ، بل الارتباط بالواقع الشعبي وبالطبقات الشعبية ذات المستقبل، والعمل بينها لصنع مستقبل لا تتحدد معالمه في صور الماضي المختلفة مهما كان تعلقنا بهذا الماضي وعملنا لمعرفته بجدية وموضوعية».

وفي مجلة "نقد" التي يشرف عليها المؤرخ المتميّز الدكتور دحو جربال، نشر الأستاذ مروش دراسة قيّمة عن كتاب "تاريخ الجزائر القديم والحديث" للشيخ مبارك الميلي وأبرز مدى إسهاماته في التأريخ للجزائر خاصة الفترة النوميدية والعهد الإسلامي. وفي مقالة أخرى عالج الدعاية الإعلامية الغربية المضللة والمنصفة خلال حرب الخليج الأولى التي كانت تتحكم في توجيه الأخبار والتلاعب بالصور وخاصة في تلك الفترة التي افتقد فيها العالم العربي قنوات إخبارية كبرى.

ويتوقف في مقال آخر عند موضوع السياقات الفكرية وتأثيرها على تحديد مفهوم الجماعة وتفعيل دورها في حركة التغيير. وله مساهمات قليلة في بعض المجلات والصحف الفرنسية مثل جريدة لوموند ديبلوماتيك التي قدم فيها قراءة نقدية لكتاب عالمة الاجتماع الثقافي فاني كولونا المعنون "آيات لا تقهر" والذي يجد فيه القارئ عبر صفحاته معلومات مفيدة وصورا معبرة عن الحياة الدينية الفطرية الريفية في منطقة الأوراس خلال الحقبة الاستعمارية، ويكتشف التحوّلات التي حصلت فيها جراء وصول الحركة الاصلاحية في ثلاثينيات القرن الماضي.

**** نــــحــو تــجــديــد الــــدراســـات الـــعــثــمــانــيــة:

خصص الأستاذ مروش الجزء الأكبر من حياته الأخيرة للبحث في تاريخ الجزائر العثماني وجمع أعماله في 4 أجزاء في موسوعة بعنوان رئيسي: "بحوث حول الجزائر في العهد العثماني"، أثار فيها كثيرا من القضايا التي لها صلة بالحياة الاجتماعية والمالية والعسكرية في الجزائر في الفترة الممتدة بين 1520 و1830.

وقد تأثر في أبحاثه العثمانية بعدد من الأساتذة المختصين في التاريخ الاجتماعي الاقتصادي أمثال إرنست لابروس وفرنند بروديل، وهما من أشهر المؤرخين المعاصرين في هذا المجال المعرفي، بفضل ما أدخلاه من المقاربة الحسابية والكمية في دراسة الظاهرة التاريخية. كما تأثر بأستاذه المشرف روبير فيلار صاحب الكتاب المعروف: "الذهب والعملة في التاريخ (1450-1920)".

رحب الباحثون والمؤرخون بالجزأين المنشورين من مشروعه العلمي الصادرين أولا باللغة الفرنسية عن دار بوشن بسان دونيس في 2002 و2007 قدموهما للقراء بما يستحقانه من التقدير والإشادة، أذكر منهم: محمد حربي، جلبير مينيي، آنا بروجيني، فاطمة الزهراء قشي، محمد ولدي، خليفة حماش، والصالح بن سالم...الخ.

وفي إطار جهوده لإحياء تاريخ الجزائر في العهد العثماني، وتصفيته من الشوائب الايديولوجية وتخليصه من الرواسب الاستعمارية، أشرف الأستاذ مروش في عام 2002 على إعادة نشر طبعة علمية ونقدية لكتاب "الجزائر في عهد السيطرة التركية 1515-1830" الذي صدر للمرة الأولى في عام 1887 للضابط والباحث العسكري الفرنسي هنري-دلماس دي غرامو.

وفي ورقة قدمها إلى المدرسة العليا للأساتذة بمدينة ليون في جوان 2006 عبّر عن نظرته النقدية للدراسات العثمانية أنتجتها المدرسة التاريخية الفرنسية أو الجزائرية، فالفترة العثمانية التي مازالت في نظره -على الأقل في العالم الأكاديمي الغربي- ضحية الأستوغرافية الاستعمارية الفرنسية التي حرّفت الأحداث ونشرت أغلاطا منهجية وآراء تأويلية من الصعب تصحيحها بشكل نهائي، والتخلص منها تماما. أما بالنسبة إلى المدرسة التاريخية الجزائرية (تخصص التاريخ العثماني) فإنها تزخر بمؤرخين أكفاء أنتجوا أعمالا رصينة إلا أنها لم تنجح بعد في تنقية تاريخنا من كل رواسب السردية الاستعمارية.

نشر الأستاذ مروش في "المجلة التاريخية المغاربية" لصاحبها المؤرخ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي بحثا حول القضايا التجارية والمالية في الجزائر خلال الفترة العثمانية. ومواصلة لهذا الجهد المعرفي، ساهم في عام 2014 في عمل جماعي حول تاريخ الجزائر المعاصر، واختار الكتابة حول العام الأخير للحكم العثماني في الجزائر (1830).

لقد حسم الأستاذ مروش في كتاباته في الجدلية المطروحة حول طبيعة الحكم العثماني في الجزائر وعلاقتها بالباب العالي في إسطنبول، فهو خلص إلى الرأي التالي: الجزائر التحقت بالحكم العثماني بمحض إرادتها واستطاعت بفضل قوتها البحرية ونظامها المالي أن تربط علاقات مميّزة مع السلطان العثماني وتكون بعد ذلك ليس فقط ولاية عثمانية كبيرة بل تصبح لها كل صلاحيات وملامح دولة قائمة. ولم يتوقف عند تاريخها السياسي والعسكري، بل توجّه بأقدام ثابتة إلى دراسة تاريخها الاجتماعي والاقتصادي متتبعا الحياة اليومية للمجتمع الجزائري ونشاطاته التجارية ومدققا في مداخيله المالية التي تأتي من العمل الاقتصادي، وليس فقط من القرصنة البحرية كما يدعي عدد من الدراسات الاستعمارية.

لقد كان أستاذنا الدكتور المنوّر مروش مقِّلا في التأليف رغم ما يملكه من رصيد معرفي ثري باللغتين العربية والفرنسية، ورغم ما يتمتع به من روح البحث والنقد البناء، ومع ذلك تبقى أعماله المنشورة لحد الآن نماذج في الدرس العميق والبحث الجاد والطرح الجديد، كما يظل الأستاذ مروش قدوةً حسنة للباحثين الذين يطمحون للابتكار والإبداع في مجال التاريخ الاقتصادي والاجتماعي.

المصدر: أد. مولود عويمر. الدكتور المنوَّر مروش راهب في محراب البحث التاريخي. جريدة البصائر، العدد 1231، 18 أوت 2024، ص 6

الدكتور ميلود عويمر

Next
This is the most recent post.
رسالة أقدم

إرسال تعليق

[blogger]

MKRdezign

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

صور المظاهر بواسطة PLAINVIEW. يتم التشغيل بواسطة Blogger.
Javascript DisablePlease Enable Javascript To See All Widget