كم هي ذاكرة الانسان مليئة بالأحداث والذكريات...؟ وكم هو مفيد الغوص في بعض التفاصيل و إخراج جزء منها الى السطح، وفتح الملفات التي أكلها الصدأ لاسيما إذا كانت تذكرنا بأجواء سعيدة...وأناس نعزهم ونفتقدهم.
وكم هو مستحسن اليوم في ظل الحجر الصحي وعهد كورونا ... تخيل تلك المشاهد ونفخ الروح فيها من جديد وعرضها، سواء عبر الصور أو سماع تلك الأصوات وهي تطرق الآذان ؟ والعمل على تراكمها لاعادة تلك الأوقات المفعمة بالمحبة والأخوة... والهروب من الواقع المليئ بالخيبات.
وكم هي العودة الى تلك الفطرة والبساطة والتواضع... مريحة، حيث البراءة والصفاء ...فلا تصنع ولا مُراءاة ...و بعيدا عن عفن السياسة والمقالب والتكالب على الدنيا الفانية والغدر...؟ منذ أن عرفت النور... زرت في الشرق كما في الغرب وداخل الوطن كما في المهجر... عددا من المساجد والمصليات...وعرفت بعض أكبر الفنادق في الجزائر في الثمانينيات. لم أسمع في حياتي التسبيحات والتهليلات والتكبيرات ...التي سأذكرها بعد حين وبلحنها الخاص، والتي كنت أحفظها على ظهر قلب، وقد سمعتها من مشايخ القرية مباشرة وأنا طفل صغير وفي بداية شبابي. ولم أعش تلك الأيام ولم أذق طعم حلاوتها ونكهة طعامها البسيط ...مع أن المساجد كلها لله وأرضه واسعة...ومع أنني أعيش في قلب أوربا.
كان المسجد العتيق في قريتنا "الدشرة" يضيء بوجوه متنورة... و الصفوف الأمامية في الغالب محجوزة لحفظة القرآن، فلا يجرأ أحدنا لتقدم الصفوف توقيرا لمن هم أكبر منا سنا ودراية.... وكان لباسهم: برانيس بيضاء منسوجة من الصوف وعمائم بيض "الشاش"... وكان بعض المشايخ يأتون إلى الدشرة من قرى مجاورة لحضور تلك الأجواء. كنا نشم رائحة رمضان مثلما تشم الأشياء لمن مازال يحتفظ بحاسة الشم...وعند مدخل القرية تقابلك رائحة المطلوع التي تصعد عادة بعد العصر، وكانت النسوة تطهينه كل مساء في نفس التوقيت على الطواجين المصنوعة باليد من الطين قبل أن يتم إحماؤه، يتلوها شربة الفريك...الذي تحضره النسوة أشهرا قبل الموعد...لاسيما إذا لم يصادف رمضان شهر الحصاد.
وكانت بنات القرية يخرجن أمام البيوت ويلعبن مع بعض، ويتنافسن مع قريناتهن على ألعاب مختلفة ومنها الغميضة...وأحيانا يستفززن بعضهن لدفع بعضهن للخروج ...بعبارات في مجموعات حيث يرددن: ياعيبي ماخرجتش ياعيبي راها تكرد: "أي إنها فضلت لعق الصحون ولم تخرج للعب معنا ! يلعبن على ضوء النجوم وعلى ضوء القمر...وكم كانت تلك الأجواء ساحرة ، خاصة إذا صادفت وقت التين والبطيخ...ويا خسارة من أتاه النعاس فنام ولم يتناول المسفوف بالزبيب والعنب الأسود أو الدلاع.ويرددن: ياقمر ياعالي أوصلني لأخوالي...الخ.
كانت صلاة التراويح على ضوء الفنار ...وأحيانا على الشموع.... في المسجد القديم، خلال السبعينيات...حيث لا كهرباء ولا غاز ولا طريق معبدة...الخ. كان للمسجد بابان قبل أن يتم تجديده، أحدهما على اليمين والآخر على اليسار ولونهما أخضر فاتح باتجاه القبلة. سقفه مغطى بعسج النخيل، تشده قناطيس جيئ بها من غابات مجاورة...كما روى الوالد عمن سبقوه. يتوسطه سحن يأتي مباشرة بعد الحائط، به أقواس...وبجانب الباب الخارجي نخلة... تم تحويلها فيما بعد ورفضت أن تموت، وخلفه ممر. وتقابل السحن باتجاه القبلة عشة الشيخ الطيب مؤذن المسجد، يخزن فيها بعض الحلويات، "القاطو" التي تأتي كصدقة يعطيها للأطفال لتحبيبهم في المسجد. يتناوب على الآذان، الشيخ الطيب مع الشيخ تهامي المسعود صاحب الصوت الرقيق...
كان لي الشرف أن أذنت في المسجد في السبعينيات وأنا لم أبلغ الحلم بعد، مع حضرة الشيخ الطيب، وأول من شجعني هو إبن عمتي إمام المسجد سي الطاهر. كنا نؤذن فوق مكان ملتصق بحائط غرفتين كان يشرف على صيانتهما الشيخ الطيب. وبجانب زاوية الغرفتين مهراس كبير من الحجر وباب في الجهة الجنوبية. وكان بجانب المسجد باتجاه الطريق من الجهة العلوية خزان للماء...وفوقه قفل مصنوع من الأسمنت ...كنا نملأ الخزان عن طريق براميل ماء نجلبه على متن الدواب ... من العنصر القريب من المدرسة الابتدائية التي تحولت فيما بعد الى متوسطة وتحمل الآن اسم المجاهد عبد الله بلكعلول.
حملت البطارية على الدابة مرة الى برج الغدير على بعد 3 كلم كي أشحنها... وأنا أطير فرحا ... حتى أستطيع أن أشغل المكبر... كنا نقوم بغسل قاعة المسجد ونفض الأفرشة من الغبار...قبل أيام من رمضان... ومن بين التسبيحات التي كانوا يرددونها: تسبيحات قبل صلاة التراويح وهي الأولى:اللهم صل وسلم وبارك على النبي محمد وآل محمد، سيد الرجال المفضل، يا بحر الكمال والجمال يانبينا. وتسبيحات ربما سنعود اليها في مواضيع أخرى. أثناء صلاة التراويح بين الركعات:سبحان الملك القدوس 3 مرات، اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه...عدد معلوماتك ومداد كلماتك كلما ذَكَرَكَ وذكرهُ الذاكرونَ وغفلَ عن ذِكرِكَ وذِكْرِهِ الغافلون. بعد نهاية صلاة التراويح:
سبحان الملك القدوس 3 مرات -سبّوح قدّوس رب الملائكة و الروح. تقبل بفضلك أعمالنا، و الطف بعبدك يامولانا واختم بخيرك آجالنا، بجاه محمد سيدنا 3 مرات. ربنا تقبل من الصلاة و الصيام، و احشرنا في زمرة خير الأنام 3 مرات، بجاه محمد عليه الصلاة والسلام.اللهم أمتنا ملسمين، محسنين طائعين، لا مبدّلين و لا مغيّرين، لا فاتنين ولا مفتونين، يا من وفّق أهل الخير للخير و أعانهم عليه، وفّقنا يا مولانا للخير و أعنّا عيه. 3 مرات. الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. اللهم لك الحمد 3 مرات، اللهم لك الحمد حمدًا كثيرا طيبا مباركا فيه، رضينا بالله ربّا و بالإسلام دينا و بالكعبة قِبلةً و بالقرآن إمامًا و حكمًا، و بسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم نبيئا رسولا. و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، 3 مرات. اللهم صلّ و سلّم على المصطفى، شفيع الخلائق و بحر الوفاء، اللهم صلّ و سلّم على الهاشمي، شفيع الخلائق أبو القاسم، اللهم صلّ و سلّم على أحمدا، شفيع الخلائق وبحر الندى ..اللهم صلّ وسلم عليه كما، عدد النجوم في جوف السماء. صلاة تدوم وتبلغ إليه، مرور الليالي وطول الدوام، والصادق محمد عليه السلام، 3مرات. حبيبي حبيبي لا غير حبيب ، إذا ضاق حالي فرج الله قريب ، 3 مرات. شريفُُ شريفُُ شرُف به أهل الصفا ومكة وزمزم والبيت الحرام ، والصادق محمد عليه السلام 3 مرات. أجب دعاءنا يا مولانا ـ أجب دعاءنا و ارحمنا، أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا و اهدينا، أجب دعانا يا مولانا، أجب دعاءنا و استرنا...أجب دعاءنا يا مولانا، أجب دعاءنا واغفر لنا...يا ذا الجلال و الإكرام اختم لنا بالإسلام ،3 مرات. آمين آمين آمين يا رب العالمين 3 مرات و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين.
في الأيام الأخيرة من رمضان، يكثرون من التهجد والنوافل والذكر... ويتحرون ليلة القدر...فأذكر أنهم وقبل صلاة الفجر وتحت نجوم السماء، يجلسون خارج المسجد ويذكرون الله كثيرا ويتأملون في خلق السماوات. ويخرج حفظة القرآن رافعين الألواح المزوقة وفيها أشكال مختلفة أبرزها الجمل... وينتقلون من بيت الى آخر وهم يرددون: بيضة بيضة للكتابة يرحم والديكم...فيجمعون سلة أو اثنين من البيض ويعودون بهم الى الجامع. ثم يرددون: سيدي سرحنا وفي الألواح زوقنا...الخ. ولما يقرر الشيخ تسريحهم يرددون وبلحن جماعي قبل أن يفترقوا : اللهم اغفر للشيخ ولوالديه ولمن علمنا ولجميع المسلمين كافة. اللهم اسقنا واسقيه، من حوض النبي صلوات الله عليه..وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. وعشية ليلة الشك، من الشباب من يستعمل شاشا ومنهم من يستعمل عظم كتف الشاة اتقاء من أشعة الشمس، لتحري هلال شوال...
وبعد أن تتأكد رؤية الهلال يبيت الناس في المسجد جماعات جماعات يحيون ليلة العيد بقراءة القرآن...وقبل صلاة الفجر، يأتي أهل القرية بالحلويات المختلفة وخبز الدار...ويتبادلون الأطباق ثم يعودون الى بيوتهم لتحضير أنفسهم لصلاة العيد. ومن حين لآخر تسمع المفرقعات مع صياح كباش العيد... ويشتري الأولياء لأولادهم مسدسات بها قراطيس من بلاستيك.ويشرع الناس في التسبيح والتكبير...يوم العيد. التسبيح الأول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله الاّ الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. ولاحول ولاقوة الا بالله.
التسبيح الثاني: سبحانك، سبحانك، ربي ما أعظم شأنك، بفضلك وإحسانك ،نجنا من نارك. وعند الانتهاء من صلاة العيد ، كانوا يتسابقون الى الامام لتقبيله. إذا كان عيد الفطر؛ فالأطفال ينتقلون من بيت الى آخر يقبلون الكبار، ونسمي العادة، المغافرة ، كلمة مشتقة من المغفرة...ونفس الشيء للكبار...وعادة يغير الناس الطريق... لالتقاء أكبر عدد ممكن من الناس بغية كسب الأجر. وإذا كان عيد الأضحى؛ فنذهب لرؤية إمام القرية في البيت القديم للشيخ الفقيه أحمد خبابه... وهناك عين بالمراح...حيث تتم التضحية ومنها ننقل الخبر للآباء لكي يضحون...ويوم العيد تقوم الوالدة بطهي الزعتر ترفقه بحلوة الغريبية ...وعادة تقوم النسوة بطهي رأس كبش العيد ...الخ.
نورالدين خبابه 26 أفريل 2020 فرنسا.
إرسال تعليق